كتابة: محمود حسنين

ربع كيلو متر مربع، مساحة صغيرة جداً، صغيرة لدرجة لم يتخيل لأحد أن هذه الجغرافيا سترسم مستقبل آلاف الأشخاص لعقود طويلة، ربع كيلو متر هي المسافة التي يقطعها الشخص خلال عشرة دقائق دون أن يبردَ فنجان قهوته، ربع كيلو متر هي حدود المخيم التي يتربع في وادِ بين قرية سردا وجفنا شمال مدينة رام الله، ربع كيلو متر هي حدود مخيم الجلزون.

هُنا وُلد الكثير وهنا مات الكثير وأيضاً هاجر الكثير، وأنا ولسوء حظي كنتُ أحد هؤلاء، حيث ولدتُ في جوف كائنٍ لا أدري ما هو، سنوات طويلة وكنت أظن أن هذه هي الحياة الطبيعية التي يعيشها البشر من أقصى الشرق حتى أقصى الغرب، حتى سمعت اسم المكان الذي أعيش فيه لأول مرة، (المخيم) نعم هكذا قالها استاذنا في الصف الأول في مدرسة الأونروا التي تقع على طرف المخيم، كان عددنا يزيد عن الأربعين طالباً في غرفة صفية لا تتجاوز الأربعة أمتار طولاً بثلاثة أمتار عرضاً، نجلس بجانب بعضنا وأكتافنا ملتصقة ببعضها وكأننا جسور بشرية صغيرة.

منذ تلك اللحظة تغير كل شيء فجأة، فقد زادني العلم حينها أننا جزء من كل، ولكن هذا الكل مختلف كلياً عما يدور في حياتنا التي كنت أظنها طبيعية، تفتحت عيوني على هذا المجهول المُزدحم دفعة واحدة، إذا أنا في مخيم وغيري لا وهذا هو المهم الأن.

حدود المخيم التي حددتها الأونروا لنا تستطيع أن تراها بعينك المجردة وأنت تقف على أي بقعة فيه، ما عليك سوى الالتفات حولك لتراها جميعها دفعة واحدة، مكان صغير يعجُّ بآلاف المباني والأشخاص، وهذا المكان سيبقى يُجدد الغصّةَ في قلوب قاطنيه إلى ان نسترد ديارنا المسلوبة أو الى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

حياتنا ليست بالرومانسية التي يتخيلها البعض مهما حاول الكثير قول غير ذلك، فأنا لا أصحو على صوت أمي أو على زقزقة العصافير كما في الحكايات، أنا استيقظ كل يوم على صوتين لا ثالث لهما، الأول هو في الشتاء عندما تكون المزاريب تدلف على الأزقة ويكون صوتها مزعجاً خاصة إن علق شيئاً تحت مياه المزراب، فإن ذلك يسبب ازعاجاً غير منقطع، وأما الصوت الأخر الذي أستيقظ عليه فهو صوت عجلات عربة القمامة التي يجرها لاجئ ليجمع القمامة من أزقة المخيم، ارتطام العجلات بالأرض المتعرجة داخل الأزقة يصدر صوتاً مزعجاً يجعلك تستيقظ متأففاً من صباحك مهما كانت أحلامك في المنام وردية، ناهيك عن صراخ الجارات وهنَّ يُوقظن أطفالهنّ على المدارس، وبكاء الأطفال كُرهاً في المدرسة التي لا يجدون فيها مكاناً فسيحا للهو والتعلم، فعددهم الكبير داخل غرفة الصف لا يجعلهم يرغبون في هذا المكان المكتظ.

بعد هذه الصباحات التي لا ينقطع الضجيج فيها، وما أن تخرج من عتبة منزلك متوجهاً لعملك او جامعتك حتى تصادف مئات الأشخاص دفعة واحدة، فالمخيم صغير وقاطنوه كُثر تجاوز عددهم في الوقت الحالي الـ16 ألف نسمة، مما شكل ذلك ثقلاً فوق ثقل اللجوء، فالمباني تأخذ طابعاً عمودياً بسبب انعدام المساحة، فمن يزوج إبنه يبني له بيتاً فوق بيته وهكذا تستمر حياة اللاجئين، عمودية رمادية بلون المباني لا أفق فيها.

ومع تزايد اعداد اللاجئين ظهرت مشكلات جديدة لم تكن قبل أعوام، فانعدام فرص العمل في السوق الفلسطيني يدفع ثمنه الشباب في المخيمات، حيث وصلت نسبة البطالة في مخيم الجلزون الى ما يزيد عن 45%، فمن يزور المخيم يجد المقاهي في المخيم مليئة بالشباب الذين يبحثون عن فرص العمل بكل المجالات ولا يجدوا سوى الفراغ.

وبسبب الازدحام والكثافة السكانية المرتفعة انقطع اللون الأخضر منذ عقود طويلة من المخيم، فتكاد تمضي في أزقته ولا تجد شجرة أو مكاناً أخضراً تستظل بظله، فمع استبدال ألواح "الزينكو" في البيوت بالحجر والطين قُطعت الاشجار وانعدمت المساحات الخضراء من أجل أن تتوسع البيوت لتستوعب أهلها قدر الإمكان.
في المخيم حتى كلاب الشوارع أصبحت بأعداد كبيرة، وكأن المخيم كان ينقصه هذه الظاهرة التي تزيد الوضع سوءً في النهار والليل فهو لا يتسع لسكانه حتى يتسع للكلاب الضالة؟!

في نهاية المطاف إذا أردت أن تصف مخيم الجلزون الذي يقع شمال رام الله لابدّ لك أن تدقق في التفاصيل، فالبشر والمباني والشوارع والازقة كلها تأن بصمتٍ، وحدها الكلمات تعاني من القلة لعجزها عن وصف ما يدور خلف جدران البيوت المتلاصقة، حيث الأسرار مفضوحة للجميع والخصوصية منتهكة إلى ما لا نهاية في كل شيء، فإن عطست في منزلك يرد عليك جارك ويقول يرحمكم الله، لأن ما يدور في منزلك مسموع ومشاهد لدى جيرانك.

نحن في المخيم لا نتحدث عن الخصوصية فهي شيء مضحك بالنسبة للاجئين جدرانهم متكئة على بعضها البعض، ورغم افتقادنا لهذا الحق إلا أننا لا نستطيع تغير ما يجري على الأرض، ولكن يبقى السؤال الوحيد الذي يدور في عقلي، لماذا أعيش في منزل جيراننا وأنا جالس في بيتي؟

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر صاحبها وليس بالضرورة رأي المؤسسة او الممول.