بقلم: عبد الغني سلامه

استنادا لوثيقة الاستقلال، وللقانون الأساسي لكل مواطن الحق بحرية التعبير، مع التأكيد بأن هذه الحرية ليست منفلتة، ولا يجوز استخدامها لأغراض التشويه.. المشكلة تبرز حين يظن المواطن أن حرية التعبير شيء مطلق، وتخصه فقط، أو حين تقوم السلطة بتقييد حرية التعبير بحجة “تهديد السلم الأهلي”..

في الحقيقة “حرية التعبير” تنطوي على إشكاليات متعددة، وهي ليست بتلك البساطة، وتلك الإشكاليات تتعلق بالجانبين: المواطن، والسلطة:

مثلاً، حرية التعبير قد تتضمن النقد، وعادة يعتقد البعض أن النقد هو الموجه للآخر فقط، ويتجاهلون “النقد الذاتي”، والذي يعني مواجهة الإنسان لذاته، ولأفكاره وتصرفاته، والاعتراف بما اقترفه من أخطاء بشجاعة وأمانة، المشكلة أن الفرد لا يقيّم نفسه بشكل موضوعي، ولا يتقبل الانتقاد من غيره.

والإشكالية الثانية للتعبير والنقد في أشكاله وأساليبه؛ حيث يتحول إلى سيل من الشتائم، والتجريح والاتهامات.. لذا اقترن النقد في العقلية العربية بالتشويه، ومحاولة النيل من الطرف الآخر.. ما أدى إلى تغييبه أو النظر إليه بريبة.

وأيضا المبالغة والتشدد فيه، مثل المبالغة في انتقاد السلطة، أو المبالغة في المدح والتملق، فكلاهما يحجب رؤية الحقيقة، وكلاهما لا يقدمان نقدا موضوعيا أمينا، لهذا السبب تختفي الكثير من الأصوات الأمينة والصادقة، خشية من اتهامها بالنفاق (إذا أرادت الثناء على ظاهرة جيدة، أو قرار سليم)، أو اتهامها بالعمالة إن أرادت انتقاد سياسات خاطئة..

وكذلك نجد غياب الموضوعية والنسبية في النقد، حيث نتخذ موقف تأييد أو عداء مطلق وكلي تجاه الشخص، أو الحزب أو النظام السياسي، فإما شيطنته كليا، أو وضعه في مرتبة القديسين.. وحتى النقاد الموضوعيين كثيرا ما يجدون صعوبة في التخلي عن آرائهم المسبقة، أو تحيزهم الفكري..

وكذلك نجد الخلط بين نقد الفكرة أو الممارسة أو الموقف، ونقد الشخص نفسه، فتصبح العواطف هي اللاعب الأساسي (أي الكراهية أو الحب)، فيتحول النقد إلى هجوم شخصي، يصل إلى الاتهام بالخيانة.. أو أن يُمارس النقد من منطق الاستعلاء والتطهر، أو التهكم، دون تقديم حلول أو اقتراح بدائل؛ وبالتالي نخطئ في تشخيص الخطأ، ونحيد عن الدور الوظيفي للنقد، وندخل في المهاترات الشخصية والمناكفات الكلامية.. ثم نجد أنفسنا في موقف حرج عندما تتغير مواقف نفس الشخص، فنتحالف معه، وننسى أننا اتهمناه بالخيانة!

النقد ممارسة عقلانية، وظيفتها كشف مكامن الخطأ، لتجنب الوقوع فيه، وتصويب المسار، وتطوير الأداء.. والنقد ضروري للتجدد والديمومة، وشرط أساسي للنهوض والتقدم، وكلما كان النقد متحررا من التقديس، والمطلق، والشخصنة، والأحكام المسبقة، والثنائيات الحادة، والشعارات.. كلما حقق هدفه بشكل أفضل.

في السنوات الأخيرة، قامت الأجهزة الأمنية (في الضفة والقطاع) بتوجيه استدعاءات أمنية لعدد من الناشطين، على خلفية آرائهم السياسية، وهؤلاء يتم اعتقالهم والتحقيق معهم مطولا، أحيانا لفترات تتجاوز الأسابيع، والتهمة غالبا تعريض الأمن القومي للخطر، أو إثارة نعرات طائفية، أو قدح مقامات عليا!

بالنسبة لأصحاب “المقامات العليا”؛ المشكلة في طريقة التعظيم غير المبررة، وفي النظر إليهم بوصفهم أناس فوق العادة.. وفيما يخص “السلم الأهلي”، فإن حفظه لا يكون بقمع التظاهرات السلمية بطريقة قاسية، ومهينة، تحت ذريعة تهديد السلم الأهلي، أو العمل لصالح أجندات أجنبية، أو عرقلة السير.. وهذه حجة الحكومات القمعية.

حسب التقرير السنوي لمنظمة “مراسلون بلا حدود” لعام 2020، احتفظت السلطة الوطنية بمركزها الذي كانت عليه العام 2019، بين الدول التي تنتهك حرية الصحافة وحرية الرأي؛ حيث حطّت في المرتبة 137 من بين 180 دولة.

في رام الله، قررت محكمة الصلح إغلاق 59 موقعاً صحفيا الكترونياً، الأمر الذي أثار موجة استنكار واسعة، من أبرزها بيان الحكومة نفسها، التي دعت للتراجع عن القرار.. نقابة الصحفيين اعتبرت القرار بمثابة مجزرة بحق حرية الرأي والتعبير.

مؤيدو القرار قالوا بأنه لحماية السلم الأهلي، وأنَّ حرية الصحافة لا تعني فتح مواقع إلكترونية لمن يرغب دون قيود أو موافقة من جهات الاختصاص، لأن ذلك قد يعني تلقي تمويل خارجي، أو دعم توجهات سياسية وثقافية مشبوهة، خاصة في ظل امتدادات الأحزاب وارتباطاتها الإقليمية.. وتلك حجج في ظاهرها محق، ولكن الأولى تحصين السلم الأهلي بالنظر في أسباب هشاشته أولاً، ومن ثم معالجتها، وطرح خطاب إعلامي بشكل ومحتوى عصري جاذب، يحترم عقول الناس، وتوجهاتها.. أما معالجة الأخبار الكاذبة والشائعات وحملات التشويه فلا تكون بالحجب، بل بالشفافية، وحسن الأداء الإعلامي، ومصارحة الشعب بكل شيء، وسن قانون الحق في الحصول على المعلومات.. وعلى الحكومة أن تعي بأن تكميم الأفواه دوما يأتي بردود فعل عكسية.

جميع الأنظمة الشمولية في العالم كانت تفرض رقابة صارمة على الإعلام، وتمنع أي انفتاح خارجي، وتفرض سياساتها على المواطنين عبر إعلام موالي، بخطاب رسمي بائس، وشعارات ثورية، وعبارات جاهزة، وتشتم المعارضين ذوو الأجندات المشبوهة.. ومع كل هذا، كانت الشعوب تهب وتنتفض، وكانت الحكومات تسقط وتتغير..

اليوم، مع ثورة التكنولوجيا المعلوماتية، لم تعد أي فرصة لفرض رقابة على وعي الناس، ولم يعد ممكنا توجيههم، ولم تعد الحكومات قادرة على التحكم بخيارات المواطنين.. فإذا كان لأي حكومة جهاز إعلامي، فلدى الآخرين ما يفوق قدرات الحكومة، بعناصر جذب أكثر تشويقا واستقطابا.. حتى دول العالم الثالث، اقتنعت حكوماتها بعدم جدوى أي محاولة لحجب مواقع، أو منع تدفق المعلومات والأخبار والصور.

وكل محاولات إقصاء المعارضة وتكميم الأفواه، والقمع السلطوي باءت بالفشل، بل في معظم الأحيان كانت تلك الإجراءات تنقلب على الحكومات، ونظرة سريعة على ثورات الربيع العربي تكفي لفهم الصورة.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر صاحبها وليس بالضرورة رأي المؤسسة او الممول.