بقلم د. إبراهيم ربايعة
اشتدت خلال الأسابيع الأخيرة حمى الصراع الإسرائيلي الداخلي، حول ما يعرف بملف الإصلاحات القضائية، التي يسعى الائتلاف الحكومي اليميني المتطرف، برئاسة بنيامين نتنياهو لإقرارها، والتي ترى فيها الأطراف الأخرى في المعارضة والمجتمع والاقتصاد والأمن تقويضاً لدولة المؤسسات وفصل السلطات وسيادة القانون، وهذا ما قاد لاستقطاب حاد ومسيرات احتجاجية واسعة في الميدان.
في الحقيقة، تلتفت النخب السياسية الإسرائيلية بشدة لسيادة القانون والفصل بين السلطات، كضامن لتماسك النظام السياسي وقوته، لكنها وبتناقض صارخ، لا تسحب ذات الفهم على احتلالها للفلسطينيين، فتضرب تقارير المؤسسات الدولية وتوصياتها، وفتاوي الجهات الناظمة للقانون الدولي، عرض الحائط، مركزة على هدفها الأساس، ضم أراض فلسطينية أكبر، بسكان أقل، معزولين بكانتونات محاصرة ومقيدة.
في المقابل، يستمر الفلسطينيون في استثمار مساحات الفعل في القانون والمؤسسات الدولية، إلى أقصاها، وآخر هذه الجهود النجاح برفع طلب فتوى من محكمة العدل الدولية، حول موضوع الاحتلال بكل تفاصيله، والذهاب المنظم إلى الجنايات الدولية بملفات متلاحقة، إلى جانب جهود المجتمع المدني، الرامية لمقاطعة الاحتلال ومؤسساته دولياً.
لا يمكن التنكر لأهمية الفعل الفلسطيني، المدعوم بشبكات الحلفاء والأصدقاء دولياً، ولعل ما يشير لأهمية هذا الفعل تصدي إسرائيل لكل خطوة فلسطينية دولية، وملاحقتها داخلياً عبر فرض عقوبات على السلطة الوطنية، وخارجياً عبر منظومة ملاحقة لمنتقدي إسرائيل باتهامهم بمناهضة السامية، وهذا ما مس حملة المقاطعة بشكل مباشر وقيد عملها في العديد من دول العالم.
لكن، إن ما يهم إسرائيل دولياً، صورتها، وهذا جهد رسمي بذلته وزارات الخارجية والشؤون الاستراتيجية ومكتب رئيس الوزراء دولياً، اذ سعت الحكومة الإسرائيلية الى تقديم نفسها على أنها شريك دولي موثوق به في التنمية والتصدي لتحديات القرن والتعاون الدولي في مجالات التكنولوجيا والمياه والزراعة، الى جانب عملها الدائم للوصول إلى المجتمعات بلغاتها من خلال دبلوماسيتها الرقمية الفاعلة، بالتوازي مع تجاهلها وتهربها من طرح القضية الفلسطينية، ومحاولة وصم الفلسطينيين بالإرهاب.
الاهتمام بالصورة هنا، الذي يمتد لنفي وإنكار أنها قوة الاحتلال، من خلال الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي والشعبي، ومن خلال البحث عن مشاريع سياسية تقونن الاحتلال وتعطي الاستيطان غطاءً شرعياً، والتي كان من آخرها مشروع صفقة القرن، الذي أعطى للفلسطينيين دولة على شكل قطعة جبن سويسرية، بلا مقومات.
لكن التحولات التي قد يفرضها الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الحالي، على شكل نظامه السياسي، من خلال تجاوز سلطة القضاء وسيادة القانون داخليا، قد تنعكس أيضاً على فهم إسرائيل لعلاقتها مع الفلسطينيين واحتلالهم، عبر القفز عن صورة إسرائيل وشكل العلاقة، للوصول إلى العدوان المكشوف دون مبررات. المؤشرات على الأرض تقول إن دولة المستوطنين في الضفة شارفت على الاكتمال، وهي مرتبطة جغرافياً مع الداخل، ولها مؤسساتها الناظمة والحاكمة على الأرض، وإن الكنتونات الفلسطينية أصبحت جلية وناجزة، إذ ينحصر الفلسطينيون في مربعات وكتل سكانية، يمكن معاقبتها عبر إغلاق حاجز وفتحه، وإن العقيدة الاستيطانية تجاوزت اية فرصة لحل سياسي، كونها عقيدة يحكمها الخطاب الديني الخلاصي، الذي يتعامل مع الفلسطيني على أنه مقيم مؤقت على هذه الأرض، يجب عليه الالتزام بقواعد الاحتلال.
هذا الواقع يقول إن الخيار الدولي لوحده لم يعد متناسباً مع الحالة على الأرض، وأن تجريم المجتمع الدولي للاحتلال وتعريفه بصفاته اللاشرعية لا يعني شيئاً دون انعكاس أثر ذلك على الأرض. لكن وفي المقابل، يقف الفلسطينيون بأدوات محدودة، يكبلها الانقسام السياسي الذي يمنع بناء برنامج ورؤية وطنية موحدة، والعزل الذي يحد من ترابط الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، وانتكاسات التضامن والدعم العربي والدولي. هذه تحديات تقف أمام النخب السياسية الفلسطينية، ولم يعد نقاشها ترفاً، في ظل محدودية الخيارات وغياب أي أفق سياسي، بل أصبحت ضرورة قصوى في ظل التهديد الوجودي الذي تواجهه القضية الوطنية الفلسطينية.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر صاحبها وليس بالضرورة رأي المؤسسة او الممول.