بقلم: أدهم مناصرة
تتخذ الإضرابات المنفذة من قبل الاتحادات والنقابات في الضفة الغربية شكل الأزمة التي وصلت ذروتها..
نعم، هي أزمة بدأت إرهاصاتها منذ سنوات مضت، واليوم هي متفاقمة بوتيرة أشد؛ لأن الفاتورة باتت أكبر.
هذا الاستنتاج يقودنا إلى الجزم بأن الإضرابات التي تشهدها قطاعات فلسطينية متعددة مؤخرا، تزامنا أو تباعا، والتعليم مثال، ليست مفاجئة أو موسمية أو "مُسيّسة بالبُعد المطلبي"، بل هي نتيجة تراكمية لسياسة "الترقيع" و"تأجيل الأزمات" التي تتبناها الحكومات الفلسطينية المتعاقبة، مع غياب الحلول الجذرية.. مستخدمة أسلوب المناورة القائم على وقف الإضرابات من خلال عقد اتفاقات ثنائية بينها وبين النقابات، بعيدا من مصلحة المواطن في أحيان كثيرة.
الحكومات تلجأ دائما إلى ثلاث وسائل لوقف موجة الإضرابات: إما تأجيل الأزمة عبر اتفاقات ثنائية لا تضمن الوفاء بالالتزام الحكومي بموجبها، أو تحاول أن تجعل المواطن هو الذي يدفع الفاتورة، بطريقة أو بأخرى، في إطار أي اتفاق على غرار ما جرى مع نقابة الأطباء وغيرها في مرات سابقة.
وأما الوسيلة الثالثة، فتتمثل بمساعي الحكومة لشحن المواطن المتضرر لاتخاذ موقف مضاد للإضراب. ما يجعل المواطن يدفع الثمن في الناحيتين، وقت الأزمة، وحين الحل عبر اتفاقات ثنائية تجعل تكلفة الحلول من جيب المواطن الذي يعاني أساسا أوضاعا اقتصادية واجتماعية صعبة وسط غلاء الأسعار ورواتب غير كافية، ناهيك عن تراجع فرص العمل في ظل سوق فلسطينية صغيرة تعاني أزمات قديمة ومستجدة.
بالطبع، المعلم والطبيب والمهندس وغيرهم هم مواطنون..إلا أن هناك فئة كبيرة جدا من المواطنيين لا يوجد لهم تمثيل نقابي، واصبح هذا المواطن طرفا غائبا مستبعدا في خضم الأزمة، وسط غياب السلطة التشريعية منذ سنوات طويلة، فلا وجود للمجلس التشريعي المخول قانونا بالدفاع عن المواطن ومصالحه التي تُنتهك من السلطة التنفيذية بلا رادع.
فالمواطن متضرر أيضا كما المعلم وغيره في ظل نهج يتبنى نظرية “تفكيك الأزمة” عبر الفصل بين النقابات وجعل قضية كل منها مسألة مستقلة وخاصة بفئات محددة، لا أزمة جمعية، وفق مفهومها هي.. فتراها تعقد اتفاقيات ثنائية بينها وبين كل نقابة على حدا، في محاولة لمنع حصول الإضرابات دفعة واحدة، وبالتالي توزيع الضغط وقتا وظرفا، والنتيجة تضخم الضرر بحق المواطن بكل فئاته وقطاعاته، وظهرت الحكومة عاجزة أكثر عن الحل أمام أزمة الإضرابات في الآونة الأخيرة، إيذانا بفشل نهجها وطريقة تعاطيها مع الأزمات.
هنا، نستذكر ما حذر منه خبراء بالاقتصاد والتنمية قبل نحو عام، مِن تفجر أزمة النقابات في أي لحظة نتيجة عدم وفاء الحكومة بالاتفاقات الموقعة مع النقابات والاتحادات، وذلك بناء على عِلم الأرقام فيما يخص موازنتها. فبوجهة نظرهم المالية لا تستطيع السلطة تحقيق مطالبهم، وهو ما يطرح السؤال: على ماذا تستند الحكومة في تعهدها بالوفاء بحقوق المعلمين والأطباء والمهندسين وغيرهم؟
وفي ذلك، ليس تبرئة للحكومة من تنصلها من الاتفاقات مع النقابات، بل هو استعراض موضوعي لماهية الأزمة وحجمها، بما فيها مسؤولية الحكومة عن عدم مصارحة المواطن والنقابات المختلفة خشية من فقدانها "هيبتها"، فضلا عن مسؤوليتها عن عدم المضي قدما في تقليل حجم الأزمة إن لم يكن حلها جذريا عبر اتباع التقشف الجدي، ومرورا بالبحث عن مصادر تمويل دائمة ومستقرة للموازنة العامة غير متأثرة بالمزاج السياسي الدولي ولا الابتزاز الإسرائيلي.. والقائمة تطول!
مفهوم أن الأزمة مُركّبة وأنّ القسم الأكبر سببه الاحتلال وسياساته الضاغطة على الفلسطينيين، بيد أنّ قسما لا بأس به من الأزمة سببه أيضا الطريقة التي تدار بها أزمات الفلسطينيين ونقاباتهم المتعددة، فالاحتلال دائما سياساته ضد الفلسطينيين وحرمانهم من العيش الكريم، لكن سوء الإدارة الحكومية منذ اليوم الأول، بمنظور خبراء الاقتصاد والحكم الرشيد، عاظم من وطأة الأزمة المُعاشة من قبل المواطن الفلسطيني؛ ذلك أن الحلول لمشاكل اليوم كان يجب الشروع بها بالأمس، وتحديدا منذ الدقيقة الأولى لنشوء السلطة الفلسطينية قبل 29 عاما.
الحال أنّ أولى خطوات الحلول للأزمة تبدأ من المواطن وتنتهي به، وهذا لا يتأتى إلا بإصلاح منظومة الحكم الفلسطيني المهترئة، انطلاقا من الانتخابات العامة، التشريعية والرئاسية، بما يقود إلى عودة المجلس التشريعي وممارسة دوره باعتباره المخول قانونا بتمثيل المواطن والدفاع عن حقوقه، بالموازاة مع مراقبة السلطة التنفيذية وممارساتها.
خطوة تبدو أنها الوصفة الوحيدة لتحقيق التوازن المطلوب بين قدرات الحكومات الوظيفية من ناحية ومصلحة المواطن بما يشمل النقابات والاتحادات من ناحية ثانية.
وبالطبع، ضمن نظرية التوازي لا التوالي منعا لمزيد من الضرر، لا بد من المسارعة إلى عقد مؤتمر عامّ يضم الحكومة والنقابات والخبراء وممثلين عن المواطن، تكون مهمته البحث عن حلول ضامنة لمصلحة الجميع، لا على حساب أي طرف كان، ومن دون التفرد بأحد.. على أن يأخذ المؤتمر خصوصية الحقوق المطلبية لكل نقابة في سياق اتفاقات جدية ومتوازنة.
رحمةً بمواطن فقد ملكة الاحتمال وكره دبلوماسية القرار، أما آن لهذا أن يتحققّ!
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر صاحبها وليس بالضرورة رأي المؤسسة او الممول