"خطر المرض وجهود المكافحة في ظل الحرب"
بقلم د. منصور أبو كريّم
كان الإعلان عن إصابة الطفل "عبد الرحمن أبو الجديان" البالغ العمر عام تقريبًا بفيروس شلل الأطفال في نهاية شهر يوليو الماضي القاطن في مدينة دير البلح بوسط القطاع، حدثًا مهمًا للتأكيد على صعوبة الأوضاع الصحية والمعيشة في قطاع غزة، حيث ساهم الإعلان في تسريع خطط حملة تطعيم واسعة للأطفال في شتى أنحاء القطاع الفلسطيني بداية من الأول من سبتمبر2024.
ويعاني معظم سكان قطاع غزة من نقص حاد في الرعاية الصحية، بعد قيام قوات الاحتلال الإسرائيلي بتدمير منهجي ومتعمد للجهاز الصحي في قطاع غزة، مما خلق واقعًا صحيًا غاية في الصعوبة والتعقيد، حيث عمّد الجيش الإسرائيلي على استهداف المستشفيات والعيادات ومراكز الرعاية الأولية، مما أدى لانهيار الجهاز الصحي بصورة شبه كلية، الأمر الذي أسهم في تراجع خدمات الرعاية الصحية الأولية لمعظم فئات المجتمع، وخلق معاناة مستمرة للفئات الهشة، مثل الأطفال والنساء، وكبار السن، كما أدى لانتشار العديد من الأمراض والأوبئة، وخاصة شلل الأطفال.
نتيجة نقص الرعاية الصحية الأولية وقلة التطعيمات خلال أشهر الحرب انتشرت في غزة العديد من الفيروسات والأوبئة الخطيرة، ومنها فيروس شلل الأطفال، فقد نشرت منظمة الصحة العالمية بيانًا بتاريخ 19 يوليو/تموز 2024 تأكد فيه انتشار سلالة فيروس شلل الأطفال من النوع الثاني في قطاع غزة.
بعدما غاب 25 عامًا عن الأراضي الفلسطينية، تأكدت أول إصابة بشلل الأطفال في غزة لدى طفل في شهره العاشر في دير البلح، بعد رصد الفيروس في عيّنات مياه جمعت نهاية يونيو/حزيران الماضي في خان يونس ودير البلح.
الحالة التي تم اكتشافها في غزة، للطفل الذي حُرم من التطعيم، تعتبر انتكاسة لجهود مكافحة شلل الأطفال على مستوى العالم، التي نجحت في خفض حالات الإصابة بنسبة تزيد عن 99 بالمئة منذ عام 1988 بفضل حملات التطعيم الشاملة. وشلل الأطفال فيروس شديد العدوى قد يصيب الجهاز العصبي ويسبب الشلل والوفاة للأطفال الصغار.
كما أنه مرض شديد العدوى وخطير، يؤثر بشكل رئيسي على الأطفال دون سن الخامسة، ويسببه فيروس ينتشر بسهولة كبيرة، بينما غالبية المصابين بالفيروس لا تظهر عليهم أي أعراض، لكن بعضهم قد يعاني من ارتفاع في درجة الحرارة، والتهاب الحلق، وصداع، وتصلب في الرقبة، وآلام في العضلات والمعدة، وغثيان.
لقد رأت منظمة الصحة العالمية إن تقلص حملات التطعيم المعتادة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك غزة، بسبب الهجمات الإسرائيلية أو القيود المفروضة على الوقود، ساهمت في انخفاض معدلات التطعيم، مما ساهم في إعادة ظهور المرض، وقُدرت تغطية حملات التطعيم الاعتيادية ضد فيروس شلل الأطفال بنحو 99 في المئة في 2022 قبل تراجعها إلى 89 بالمئة خلال العام الماضي. ويؤكد عاملون في قطاع الصحة الفلسطينية إن توقف العديد من المستشفيات في غزة عن العمل يمثل سببًا مباشرًا في انتشار العديد من الأمراض والأوبئة، بينما يرى موظفو إغاثة دوليين إن تدهور الأوضاع الصحية في غزة حيث تنتشر المجاري المكشوفة وأكوام القمامة هيأت ظروفا مواتية لانتشار الفيروس. لقد وثَّقَتْ منظمة الصحَّة العالميَّة 102 حالة هجوم على مراكز الرعاية الأوليَّة، بينما تلقَّت 13 مؤسَّسة صحيَّة أوامر بالإخلاء من غزَّة وشمال غزة. وحسب آخر تقارير المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة فإنَّ 33 مستشفى، و64 مركزًا صحيًّا خرجوا عن العمل بسبب الحرب والعدوان الإسرائيلي المستمر على القطاع، وأكدت البيانات الحكومية والدولية أنّ 160 مؤسَّسة صحيَّة تمَّ استهدافها من قِبَل الاحتلال الإسرائيلي خلال شهور الحرب الماضية.
بعد الإعلان عن وجود الفيروس في غزة نظمت منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع الأمم المتحدة ووزارة الصحة الفلسطينية، حملة تلقيح ضد شلل الأطفال بدأت اليوم السبت 30 أغسطس 2024، بعد أن أرسلت الأمم المتحدة 1,2 مليون جرعة من اللقاحات عبارة عن قطرات فموية.
الحملة التي قادتها منظمة الصحة العالمية على مدار 12 يومًا، قدمت لقاح شلل الأطفال الفموي الجديد من النوع 2 (nOPV2) إلى 558963 طفلًا في كامل مدن القطاع ومخيماته، بعد تخطيط وتنسيق دقيقين وشمل ذلك استخدام شبكة واسعة من الفرق التي تقوم بالتطعيم في مواقع ثابتة مختارة في المرافق الصحية ومراكز التوعية، وفي هذا السياق قال الدكتور "ريتشارد بيبركورن"، ممثل منظمة الصحة العالمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة: "لقد أظهر العاملون في مجال الصحة والمجتمع قدرة لا تصدق على الصمود، حيث نفذوا هذه الحملة على نطاق وسرعة غير مسبوقين في ظل أصعب الظروف في غزة، ومن المنتظر أن تلي هذه الجولة جولة ثانية من حملة التطعيم، لكن أمامها العديد من التحديات أهمها مدى توفير الجرعة الثانية، من لقاح nOPV2 لمنع انتشاره على المستوى الدولي، وصعوبة الوضع الأمني والإنساني في غزة وكثرة التنقل والنزوح والاستهداف المتكررة للجيش الإسرائيلي للمراكز الإيواء ومخيمات النزوح.
في الختام، يمر القطاع الصحي في قطاع غزة بأوضاع كارثية على كافة المستويات مما ادى لانتشار العديد من الأمراض المعدية والفيروسات، لذلك يتعين على المجتمع الدولي أن يدرك حجم الكارثة الصحية التي تهدد حياة آلاف الأطفال في غزة، حيث أصبح شلل الأطفال رمزًا مأساويًا للفشل في حماية أبسط حقوق الإنسان كما ان تدمير النظام الصحي بشكل شبه كامل يعكس مستوى القسوة والإهمال الذي يعيشه سكان القطاع وفي ضوء ذلك يتوجب على المجتمع الدولي والمنظمات الدولية والإقليمية أن تتحرك بسرعة لإجبار الاحتلال الإسرائيلي الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية، التي توفر الحماية للأماكن والمنشآت الصحية، كما يتوجب عليها العمل بسرعة لتوفير اللقاحات والرعاية الصحية اللازمة، والعمل على إعادة بناء النظام الصحي المتهالك في غزة، ووقف العدوان بشكل فوري. إن تجاهل هذه الأزمة لن يؤدي إلا إلى لمزيد من المعاناة، وقد يُعرّض أجيالاً كاملةً لخطر الأمراض والأوبئة. الوقت ينفد، والعمل العاجل هو الحل الوحيد لإنقاذ مستقبل الأطفال في غزة.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر صاحبها وليس بالضرورة رأي المؤسسة او الممول.