بقلم: فادي العصا

ما زالت الانتخابات المحلية في فلسطين الفرصة الديمقراطية الوحيدة التي يمارسها الفلسطينيين، حتى أن قطاع غزة حرم من هذه التجربة نتيجة للتجاذبات والانقسامات السياسية التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني منذ العام 2006، حيث جرت فيه أخر انتخابات تشريعية ورئاسية على مستوى الوطن، وبقيت الانتخابات المحلية تجري في الضفة الغربية بشكل منتظم إلى حد ما، رغم انخفاض الاهتمام الشعبي بهذه الانتخابات من ناحية ومحاولات تجزئتها ومخالفة القوانين والأنظمة السارية بشأن إجراء الانتخابات المحلية.

نحاول في هذا المقال تسليط الضوء على التجارب الديمقراطية العالمية على مستوى الانتخابات المحلية، بغية توسيع الأفق أمام استفادة التجربة الفلسطينية المحلية بشأن تطوير الانتخابات المحلية والأنظمة المعمول بها، وصولاً إلى نظام انتخابي قادر على مجاراة المتغيرات السريعة وتقليص الفجوات التي يعاني منها قانون الانتخابات المحلية، وتقليل الآثار الناجمة عنه بما يتعلق بمستويات المشاركة السياسية للمواطنين، تعزيز سلاسة النظام الانتخابي وتعدد الخيارات أمام المواطنين في اختيار من يمثلونه في المجلس البلدي أو القروي.

لقد شهدت الانتخابات المحلية التي جرت في الضفة الغربية على مرحتين عدداً من التطورات والأحداث التي كادت أن تعصف بالمجتمعات المحلية وتهدد أمنها وسلمها المجتمعي، كما طغت على الانتخابات السردية العشائرية في تشكيل القوائم وظهور موازنين قوى مدعومة بالعائلة والعشيرة والحمولة، الأمر الذي يعد تهديداً للممارسة الديمقراطية نفسها حين تصبح أداة في ترسيخ القوى التقليدية على حساب قوى وطنية إدماجيه وحديثة وصاحبة تطلعات مستقبلية.

وفي إطار مراجعة التجارب الدولية وجدنا أن لكل الأنظمة الانتخابية بلا استثناء عيوب، وهذا الاستنتاج كان واضحاً من الافتراض القائم على أنه لا توجد ديمقراطية مثالية، وإنما يعود الأمر لدور النخب في التطوير والتجويد وانتقال الانظمة الانتخابية إلى ما هو أفضل، وتحويل الإجماع الوطني إلى ممارسات تتعلم من دورس تاريخ ممارستها الديمقراطية بمختلف مستوياتها، وتكون العبرة في تحديث الأنظمة قائمة على تعزيز المحاسن وتقليل أثر المساوئ في الأنظمة الانتخابية المحلية.

إن الاستنتاج الأهم لهذه التجارب أيضاَ جاء متمحوراً حول أن الانتخابات المحلية أتت كأخر سلسلة لتطوير النظم الديمقراطية وقد كان الهدف منها تعزيز تمثيل مصالح وأصوات المواطنين في كل المستويات سواء على مستوى القرية أو المدينة أو المقاطعة أو الولاية وصولاً للتمثيل على المستوى الوطني، وبالتالي فإن الانتخابات المحلية جاءت كتطوير للأنظمة الديمقراطية التي كانت تمارس ديمقراطيتها على المستوى الوطني، وبالتالي فإن العلاقة ما بين الانتخابات العامة والمحلية علاقة طردية وبالقدر الذي يتم فيه تطوير وانتظام الانتخابات العامة تنعكس على مدى التطوير في الانتخابات المحلية وليس العكس، كما ان تجزئتها أو اعتماد مستوى دون أخر يعتبر تدميراً وتراجعاً للتجربة الديمقراطية.

أظهرت التجارب الدولية في الانتخابات المحلية، وخاصة في الدول الأوربية اهتماماً في تقييم القوانين والأنظمة للانتخابات المحلية بناء على معايير أهمها تحقيق السهولة واليسر إذ يراعي النظام الانتخابي أهمية التسهيل للمواطنين لفهم النظام الانتخابي لتشجيع المشاركة، ويراعي المستوى التعليمي والاجتماعي والاقتصادي للفئات المجتمعية المختلفة، وقد تم تطوير هذ المعيار للنظام الانتخابي في دول أوروبا الشرقية بعد أن خرجت من مظلة الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي. وجاء المعيار الثاني مرتبط بدوام وانتظام العملية الانتخابية في مواعيد معتمدة محلياً ولا ترتبط برغبة حزب او أغلبية لتعطيل الانتخابات، وجاء المعيار الثالث مرتبط بتشجيع التعديد، إذ أن التعددية تعتبر المدخل لتشجيع حق الاختيار وتوسيع الخيارات أمام المواطنين في اختيار ممثليهم.

الأمر الأخر يرتبط بالنظام الانتخابي المعتمد على المستوى المحلي، وقد كان النظام الفردي الأكثر شيوعاً في العالم وخاصة في أوروبا وأمريكا كونها دول رائد في مجال الديمقراطية الليبرالية، حيث يتم تحديد عدد المقاعد المطلوبة للمجلس المحلي ارتباطاً بعدد السكان، كما تتنوع مستويات الحكم المحلي في كل مدينة أو بلدة أو مقاطعة بحسب عدد سكانها، ومن الجدير ذكره أن عدد المقاعد تقل كلما ارتفع مستوى التمثيل، حيث يكون المجلس البلدي أكثر مقاعد منها على مستوى مجلس المقاطعة وتنظم العلاقة بين المستويات المختلفة بحسب الاختصاص في السياسات والخدمات المنبثقة عن كل اختصاص وصلاحيات كل مجلس على المستوى المحلي.

وتتلخص حسنات نظام الانتخاب الفردي في أنها تعتمد على العلاقة المباشرة بين المرشح والناخب وتيسر عملية محاسبته على تنفيذ وعوده الانتخابية، ويعتمد النظام الفردي غالباً في المجتمعات الصغيرة نسبياً من حيث عدد السكان، وتبرز بسحب النظام الفردي رؤى متنوعة على المستوى المحلي يحفز دراسة تطوير المجتمعات المحلية والنهوض بها. وكما للنظام الفردي محاسن، تبرز في نفس الوقت مساوئ هذا النظام في تشكل الولاءات المحلية وتكون في غالبها ذات طابع قبلي أو عرقي أو ديني.

أما نظام القائمة فيعتمد غالياً في المدن حيث التعددية السياسية والمجتمعية، وتعتمد جل تشكيل القوائم على النظام الحزبي، إذ تتشكل التحالفات بين الأحزاب المختلفة تضم الحراكات المتعددة والناشطين والسياسيين في قوائم للتنافس على المقاعد المتاحة، ولكل قائمة برنامج انتخابي واضح، وتضاهي هذه الانتخابات في المدن الكبرى من حيث الأهمية الانتخابات البرلمانية، حيث يكون من مهام المجلس البلدي تقديم مقترحات للسياسات وتشريعات على مستوى المدينة. ومن حسنات هذا النظام تغليب المصلحة العامة على المصالح الفئوية، وتنشط التحالفات السياسية المتعددة، وظهور أهمية البرامج الحزبية وقدرتها على التطوير والتحديث، بالإضافة إلى ظهور التعددية السياسية والنقاشات التوعوية من خلال أنشطة الحملات التي تحتدم خلال الفترة الانتخابية.

أما مساوئ هذا النظام فتتلخص بأن لدى الأحزاب السياسية قدرة في تغييب حظوظ الكفاءات في إدارة المجالس البلدية، وقد تحدد خيارات المواطنين على أساس حزبي دون النظر لخيارات أخرى، كما أن نظام القوائم قد تتشكل من خلاله ائتلافات غير مستقرة وقد تنهار في أي لحظة خلاف على البرنامج المعتمد للمؤسسة المحلية، وتصبح المحاسبة على أساس حزبي أكثر من ارتباطه بشخص المرشح نفسه.

وتظهر التجارب الدولية أيضاً النظام الانتخابي النسبي المعتمد على المستوى المحلي، إذ يعد هذا النظام من أقدم الأنظمة الانتخابية في العالم، وتم تطبيقه لأول مرة في بلجيكا عام 1889، ويطبق حالياً في أكثر من 60 دولة حول العالم، وتعتبر العدالة أهم ما يميز هذا النظام فعندما يتناسب عدد المقاعد التي حصلت عليها القوى السياسية مع نسبة حضورها في الانتخابات بكل مستوياتها، يكون هناك انسجام في توزيع المقاعد سواء على المستوى البرلماني أو على مستوى الهيئات المحيلة، وهناك نوعين للتمثيل النسبي الكامل والتقريبي ويعتمد هذا النظام في مكوناته على نظام الأغلبية، ويحتاج هذا النظام إلى ربط مباشر بين الانتخابات المحلية والعامة كما يحتاج إلى وحدة جغرافية لكل مكونات الدولة.

إن مراجعة الانظمة الانتخابية وتنوعها في العالم قد يكون مفيداً للتجربة الفلسطينية في انتخاباتها المحلية، وقد يكون مراجعة النظام الانتخابي للانتخابات المحلية أمراً مهماً من خلال معالجته وفقاً للمناطق وتنوع الفئات المجتمعية التي يتشكل منها الشعب الفلسطيني، وقد يتبادر للذهن تقسيم مستويات الحكم المحلي في فلسطين أمراً لا بد من طرحه من جديد، وأن تطبيق النظام الانتخابي ذاته في كل التجمعات السكانية قد تكون ممارسة ديمقراطية لا تعكس المرجو منها، إذ شهدت الانتخابات السابقة عقبات تشكيل القوائم في القرى الصغيرة وهو ما يدعو إلى الالتفات لاعتماد النظام المختلط أكثر من نظام القوائم المغلقة، ومنح الجمهور فرصة اختيار رئيس البلدية بالتصويت المباشر.

إن مراجعة النظام الانتخابي المحلي الساري في فلسطين يقع على عاتق النخب الفلسطينية والأحزاب والمؤسسات والنقابات وغيرها من التشكيلات المجتمعية والسياسية، التي لا بد من أن تنخرط في حوار مجتمعي جاد لبلورة نظام انتخابي قادر على التعاطي مع المتغيرات وفي ذات الوقت قادر على الأخذ بالحسبان الاختلافات بين التجمعات السكانية الفلسطينية.

 

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر صاحبها وليس بالضرورة رأي المؤسسة او الممول