بقلم: زبيدة صبحي/ سلمان

مقدمة:

لم نصل القمر فحسب بل جبنا أرجاء هذا الفضاء الواسع بأليات ووسائل صنعها العقل البشري المبدع الذي حتما فكر خارج الصندوق بأسلوب ناقد ومبتكر استطاع تطويع الطبيعة لإشباع حاجاته وتحقيق أهدافه. ورغم ذلك ما زالت هناك مساحات كبيرة على هذا الكوكب تعاني فيها البشرية من القمع والاضطهاد وما زال التعليم خاصة في العالم العربي مكبلا بسياسات الدول وقوانينها البائسة.

تضع المدارسُ خِططاً دراسيّةً تحتم على كلِّ طالب أن يَدرُس وفق نظام محدد مواد معينة لا يمكن العبث بها وليس لطالبِ العلم رأيٌ أو مشاركة أو مجال للانتقاد أو التّأثيرِ على هذا النظام.

سياسةُ المدارسِ وتدريسُها تُحَتِّمُ على الطالب أن يتنقل كل يوم كارها وليس راغبا بين الموادِّ الدراسية بالتزام مقيت وثبات لا ليونة فيه لمدّة تقارب خمس وأربعين دقيقة وقد تزيد, وبعد ذلك يدخل في تقييم اقرب ما يقال عنه أنه استرجاع لما تم إيداعه وليس لما تم هضمه وامتصاصه وتحليله ,يليه تقييم من المعلم صاحب الاختصاص الذي يمثل الطبقة الكادحة من النظام والذي بدوره يحدد استحقاق الطالب للنجاح أو للفشل ، أو تصنيفه ذكيا أم ذو قدرات محدودة ، وماذا سيكونُ تخصصه الجامعي وما هو العمل الذي سيشغله فيما بعد والذي سيؤطر تصنيفه الاجتماعي ومستواه الفكري والعقلي تحت ظل هذا النظام.

التعليم طريقا للحرية:

تعاقبت السنوات وأدركنا أننا في محنة شديدة، والكلُّ فيها ينادي بالعلمِ والتّعليمِ كأساسٍ للنَّهضةِ، فهل التعليم هو الحل الذي سيحقق الهدف؟ أم أنه سلاح ذو حدين؟

يقول باولو فريري في الصفحات الأولى من كتابه “تعليم المقهورين

أن التعليم وسيلة للثورة على الظلم، وطريقاً للحرية، وفي الوقت ذاته إما أن يكون أداة للقهر أو طاقة للتحرر. وبذلك كشف عن منحى خطير قد يؤدي إليه التعليم، خاصة إذا استعملته الدولة لتكريس سلطتها وهيمنتها على الشعب وهذا النوع من التعليم أطلق عليه فريري التعليم البنكي أو التلقيني والبعيد عن احتياجات المتعلم.

في التعليم البنكي، المدرسة تعمل على إلغاء وتهميش الإنسان وهدر كرامته، بتعاملها معه بوصفه مجرد متلقٍّ سلبي، عليه أن ينفّذ ولا يناقش؛ لأن أي خروج عن النص مستنكَر وغير مسموح به ، ويؤدي إلى الرسوب والفشل.

في هذا النوع من التعليم يقوم المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات الجاهزة في عقول الطلبة، والذي يقتصر دورهم على استيعاب تلك الإيداعات .فالمعلم هو مصدر المعرفة، هو الذي يفكر والطلاب جهلة لا يعلمون شيئاً وليس لديهم خبرات تستحق سماعها.

وهذا النمط التعليمي لا يخرِّج سوى قوالب مكررة من الطلبة، منسوخة عن بعضها، تسهم في تكريس الوضع القائم وابقاءه في وضع الجمود والرجعية .

فيفترض المعلم أن الطلبة ليس لديهم أية معرفة أو خبرة، وبالتالي عليه أن ينقل إليهم المعرفة عن طريق الشرح؛ أي عليه أن يتكلم ويشرح، وعليهم أن يستمعوا إليه وينصتوا بخشوع، فهو الذي يودع المعرفة في عقولهم وعليهم أن يخزنوها ، وهو الذي يسأل وعليهم أن يجيبوا.

التعليم البنكي صورة مصغرة عن نمط العلاقات السياسية والاجتماعية في النظم الاستبدادية، وما تقوم به المدرسة هنا هو ترسيخ هذا النمط وإعادة إنتاجه فالعلاقة التي تكونها مع الطلبة علاقة مركزية تسلطية بحتة تتحرك فقط من أعلى إلى الأسفل بعيدة كل البعد عن العلاقات الإنسانية .

التعليم البنكي يسعى إلى تجميل الواقع، وإخفاء عيوبه بالتزوير فهو يستخدم أسلوب الأسطورة الذي لا يمت للواقع بصلة فهو ينظر للطلبة بوصفهم كائنات ضعيفة تستحق المساعدة، فلا يرى قدراتهم الخاصة، ولا يكتشف مواهبهم، فيسبب لهم الإنطفاء والإحباط ، ويخنق الخيال وروح التحدي والإبداع لديهم، ويطالبهم بالتكيف مع الواقع، والتسليم به .

يقول فريري: (أن التعليم المصرفي يتحول الطلاب فيه إلى مصارف يقوم فيه المعلمون بإيداع معارفهم، وهو انعكاس لمجتمع القهر، والذي من شأنه تقليل الإبداعية عند الطلاب أو من الممكن إلغاؤها تمامًا من أجل خدمة أغراض القاهرين، ولا يتم الطرح في هذا النوع من التعليم حقائق علمية من وجهة نظر نقدية، بل إنه يكيف المتعلمين مع واقعهم ويزيد من سلبيتهم.(

لم يتجمد باولو فريري في إطار طرح المشكلة بل كون رؤية فلسفية أظهر فيها مهارة تفكيره الناقد المرتبط بمهارة حل المشكلات فاستبدل التعليم المصرفي بالتعليم الحواري، والذي يقول عنه: (أن الحوار الناقد هو مفتاح التغيير، ذلك الحوار الذي يؤمن بإيجابية المتعلمين وإنسانيتهم ، بحيث يدخلون في علاقة حوار دائم مع المقهورين، وتتكفل هذه العملية بتخليص المتعلمين من الأوهام والأساطير التي صورها لهم النظام القديم، وأن وظيفة التربية هنا هي تنمية النقد والحوار، وتدريب الوعي الناقد لدى الطلاب، لأنه يسلم بأن عقل الإنسان قادر على كشف الحقيقة.

التعليم الحواري يعترف بقدرات الطلبة، ويحثهم على التفكير النقدي، وعدم التسليم بالشعارات الجاهزة، ويقنعهم بقدراتهم على إحداث التغيير.

يعتمد فريري أسلوب الحوار حيث يتبادل فيه المعلم والطالب أدوارهما، فيتعلم كل منهما من الآخر، ويصبح موضوع الحوار على الأغلب هو الأوضاع الحياتية للمقهورين. فيدعو المعلم للتمرد على القهر والتسلط في المدرسة، عن طريق تنمية روح الاستقلالية لدى الطالب، واحترام ما لديه من معرفة؛ ويقول: "المعلم الذي لا يحترم فضول الطالب في تعبيراته الجمالية واللغوية، والذي يسخر منه، إنما ينتهك مبادئ أخلاقية أساسية للشروط الإنسانية".

نحن في عصر تجاوزنا فيه أن يكون المعلم هو مصدر المعرفة الوحيد. فالمعرفة هي عملية بحث وتقصٍ وتفكير، وليست تلقيناً، وأنه لا يوجد حقائق مطلقة فكل حقيقة هي قابلة للتبديل والتجديد والتغيير سوى حقيقة وجود الله كما نؤمن بها نحن الموحدون .

لكن هذا لا يعني أن يكون الحوار هو اللاعب الأوحد في نظام التعليم ، إن "فريري" لا يدعو إلى تقليص نشاط المعلم التدريسي ليصبح مجرد تداول الأسئلة، باسم حرية التعبير وتنمية روح البحث والفضول عند الطلبة؛ فالحاجة إلى الحوار لا تقلل بأي حال من الأحوال من الحاجة إلى الشرح والعرض والتفسير الذي يقدمه المعلم من خلال فهمه ومعرفته بالموضوع، فالأساس في هذه العملية هو أن يعرف كل من المعلم والطالب أن التساؤل المفتوح والتحدث والإصغاء والنقاش أساسها الاحترام المتبادل.

ويؤكد فريري أنَّ الحوار لا يتواجد بين أشخاص تنكر على الآخرين حقهم في إطلاق كلمتهم وحقهم في الحديث. ولا يمكن أن يكون مجرد عملية فرض رأي من شخص على الآخر. فهو يتطلب الإيمان العميق بقدرة الإنسان على أن يصنع ويعيد صناعة وتشكيل ما حوله من خلال حواره مع ذاته من جهة وحواره مع الأخرين من جهة أخرى.

في النهاية راق لي أن فريري ربط بين دور المعلم ودور السياسي فدعا إلى ضرورة فهم كل من المعلم والسياسي للظروف الهيكلية التي تكون فكر ولغة وثقافة الأفراد فهو يدعو إلى التفكر والتأمل والاستكشافِ للتعرّفِ على الكون وفق علاقة إنسانية تركز على حرية الفكر وأنسنة الإنسان والإبتعاد عن التعليم البنكي الذي يُكرَّسُ الخنوع والإذعان واتِّباعَ المساراتِ المرسومةِ مسبقاً والسّيرَ على مناهجٍ موحَّدةٍ وضيّقة تحد من التفكير والتفكر.

الخاتمة:

لا يمكننا أن نصل الى أي مكان دون محاولة اللحاق بالركب ومعايشة التطور العالمي بحيث نصبح جزءا لا يتجزأ منه وهذا لا يمكن أن يحدث الا إذا وضع كل شخص فينا نصب عينيه ضرورة التغيير للأفضل وفي الحال.

وأفضل من يقوم بهذا التغيير هو المعلم، ليس لأنه الحلقة الأضعف بل لأنه الأقوى، هو المؤثر والقدوة لطلابه فإذا علم كيف يغير وكيف تؤتى النتائج الإيجابية للتغيير فحتما سيكون التعليم أساسا للنهضة.

وهنا يحضرني قول شمس الدين التبريزي حيث قال: يوجد معلمون مزيفون وأساتذة مزيفون في هذا العالم أكثر عدداً من النجوم في الكون المرئي، فلا تخلط بين الأشخاص الأنانيين الذين يعملون بدافع السلطة وبين المعلمين الحقيقين، فالمعلم الروحي الصادق لا يوجه انتباهك إليه ولا يتوقع طاعة مطلقة، أو إعجاباً تاماً منك، بل يساعدك على أن تقدر نفسك الداخلية وتحترمها، إن المعلمين الحقيقيين شفافون كالبلور، يعبر نور الله من خلالهم.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر صاحبها وليس بالضرورة رأي المؤسسة او الممول.