د. طلال أبوركبة 

ينظر للعنف المبني على النوع الاجتماعي، باعتباره أحد أهم القضايا الشائكة التي باتت تؤرق المجتمع الفلسطيني، حيث تشير معطيات جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني حول العنف إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات العنف داخل المجتمع الفلسطيني.

يشكل العنف المبني على النوع الاجتماعي خطورة كبيرة على المجتمع بوجه عام وعلى منظومة السلم الأهلي فيه، نظرا للآثار السلبية التي يتركها على كافة الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، كما أن هناك جملة من العوامل التي تؤثر بشكل واضح في ارتفاع أو انخفاض منسوبه داخل المجتمع الفلسطيني، خصوصاً في ضوء استمرار سياسات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وعدم قدرة السلطة الفلسطينية على بسط سيادتها على كافة الأراضي الفلسطيني، وغياب سيادة القانون في العديد من الأماكن، وتنامي دور القوى العشائرية والتقليدية والجهوية، إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية القاسية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وخصوصاً بين أوساط الشباب، يرافق ذلك حالة الانقسام السياسي الفلسطينية، وتوقف المجلس التشريعي عن ممارسة مهامه الأساسية المتمثلة في سن القوانين والتشريعات اللازمة للمجتمع، أو تطوير التشريعات القديمة بما يتناسب مع المتغيرات التي تظهر في المجتمع بين الحين والأخر.

ساهمت تلك الأسباب على اختلاف درجتها في ازدياد ظاهرة العنف المبني على النوع الاجتماعي، خصوصا في ضوء استمرار غياب الحماية القانونية والاجتماعية المطلوبة لضحايا هذا العنف.

تجدر الإشارة إلى أن العنف المبني على النوع الاجتماعي هو مصطلح شامل لكل فعل مؤذٍ يرتكب ضد إرادة شخص ما ويعتمد على الفوارق المحددة اجتماعياً بين الذكور والإناث (النوع الاجتماعي)، حيث ويوجه العنف المبني على النوع الاجتماعي نحو شخص بسبب نوعه أو دوره الاجتماعي في مجتمع أو ثقافة ما، وعادة النساء والفتيات هن الأكثر عرضة للعنف المبني على أساس النوع الاجتماعي بسبب كونهن نساء. كما أن العنف المبني على النوع الاجتماعي ليس موجه فقط نحو المرأة، وان كانت المرأة تحظى بالنصيب الأكبر من العنف الممارس في المجتمع، وانما يمتد ليشمل فئات أخرى استنادا على دورها الاجتماعي الذي تمارسه في المجتمع الفلسطيني الذي يحتكم لمجموعة معقدة ومتعددة من التداخلات المجتمعية المستندة لثقافة مجتمعية سائدة تهيمن عليها العقلية الذكورية الاقصائية التي تعلي من شان الرجال وتحط من قيمة النساء وتقلل على الدوام من اهمية دورهن ووجودهن في الحياة، وتقصيهن من الوصول لمواقع صنع القرار بما فيها الدائرة الاولى المتعلقة باتخاذ القرارات الشخصية الخاصة بالنساء أنفسهن، كون تلك الثقافة لا ترى النساء قادرات أو مؤهلات لاتخاذ قرار مهما علا أو قل شأنه.

يدفع هذا الواقع إلى ضرورة ابتكار آليات قادرة على حماية المجتمع من الانزلاق إلى أتون العنف الذي لا تحمد عقباه، وضرورة البحث عن اليات للوقاية الفعالة منه، وتخبرنا التجارب الدولية إلى أن آليات الإنذار المبكر هي واحدة من الآليات التي يتم اللجوء إليها لمنع انتشار وتمادى ظاهرة العنف في المجتمعات، كما أن اللجوء إليها يتم عادة عندما يكون المجتمع يفتقر إلى تشريعات ملائمة وقادرة على مواجهة العنف، أو في حالة وجود قصور في أليات تنفيذ القانون بما في ذلك الافتقار إلى القدرة على فرض سيادة القانون كما هو الحال في الأراضي الفلسطينية. إضافة لبروز أو تنامي نمط واضح من التمييز على أساس جندري كما تدل المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية في الحالة الفلسطينية. حيث يكون الهدف الأساسي لتلك الآلية هو منع تفاقم ظاهرة العنف، وذلك بما تشمله من إجراءات وتدابير لبناء الثقة من أجل تحديد ودعم كل ما من شأنه أن يعزز السلم الأهلي والتسامح داخل المجتمع، لا سيما منع كافة أشكال ومظاهر العنف المبني على النوع الاجتماعي، أينما وجدت، بحيث تشكل مقبولية مجتمعية وراي عام قوي لرفض العنف وتبني الحوار لحل الأزمات والمشاكل داخل المجتمع.

كما أن الإجراءات العاجلة التي تقدمها ألية الإنذار تهدف إلى التصدي المبكر للمشاكل التي تتطلب معالجة فورية من أجل منع وقوع انتهاكات جسيمة، والحد من نطاق العنف وعدده، ويمكن أن تشمل معايير البدء في اتخاذ إجراء عاجل. كما تتطلب فهم حقيقي لطبيعة العنف وأسبابه وآثاره، من أجل بناء استجابة قادرة على الحد منه.

طرحت المؤسسة الفلسطينية للتمكين والتنمية ريفورم في الآوانة الأخيرة ألية الإنذار المبكر الخاصة بها، وتركز تلك الألية على الحد من مخاطر العنف الموجه ضد النساء ومكامن التمييز على أساس الجنس، او الاقصاء او التهميش خاصة، بناء على عملية رصد دقيقة للمتغيرات الثقافية والبنيوية، والجريمة بمختلف أشكالها في المجتمع، كما أن تلك الآلية هي أداة مساندة لقوى الأمن في معالجة الاختلالات البنيوية في المجتمع، وخصوصا في المناطق التي لا تستطيع قوى الأمن من الوصول إليها كما هو الحال في المناطق المصنفة (ج) في الضفة الغربية والقدس،  حيث يقدم هذا النظام قراءات كمية ونوعية لحالات العنف، الأمر الذي يساعد بدوره كافة الجهات ذات العلاقة من بناء سياسات وبرامج وتدخلات قادرة على الاستجابة لأمن المواطن وأمانه، ويساعد في التقليل من التكلفة المالية، والجهود المبذولة في عملية انفاذ القانون.

نجاح آلية ريفورم وتفعليها في مواجهة العنف أو الحد منه على أقل تقدير، تستدعي شراكات حقيقية بين كافة المؤسسات الرسمية والأهلية ذات العلاقة، وتضافر جهودها، لإنجاحه، وذلك من خلال تبادل الأدوار التي يحتاجها هذا النظام والاستفادة من قدرات وامكانيات كافة المؤسسات لإنجاحه، سواء من خلال عملية الرصد الدقيقة للانتهاكات العنفية وتوثيقها للحد من الأخطار المتربصة بالانسجام المجتمعي، وذلك من خلال منصة اليكترونية تمهد الطريق للإنذار المبكر والاستجابة لمواجهة العنف من خلال رصد مؤشرات العنف كخطوة أولى. او من خلال مساعدة المؤسسات العاملة في مجال الاستجابة لقضايا العنف المبني على النوع الاجتماعي من تحسين قدراتها في تصميم وبناء تدخلات قادرة على خدمة وحماية من يتعرضوا للعنف.

تشكل ألية الإنذار المبكر التي قدمتها ريفورم قفزة نوعية في الخطوات المبذولة لمواجهة العنف المبني على النوع الاجتماعي، من خلال تصميم تدخلات قائمة على الأدلة وعلى فهم أعمق وأشمل لحجم العنف وأشكاله وأسبابه المباشرة والبنيوية التي تواجه المجتمع، وبالتالي ووضع التدابير والتدخلات المباشرة القادرة على منع نشوء أو تصاعد أو انتشار العنف.

كما أنه يمكن أن يشكل استخدامه للكشف عن العلامات المبكرة للعنف والتحذير منها، قفزة نوعية في مساعدة كافة المؤسسات لاتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من العنف وحماية الضحايا. بما يشمل توفير دعم نفسي واجتماعي للضحايا وتعزيز الوعي والتثقيف حول المسائل المتعلقة بالنوع الاجتماعي. 

كما أن تلك الألية من شأنها أن تلفت انتباه صناع القرار وراسم السياسات باعتباره أداة مساندة وليست بديلة عن عمل الجهات الرسمية، إلى أهم المؤشرات والتدابير التي يمكن أن تساهم في حماية وتعزيز منظومة السلم الأهلي بوجه عام، حيث أنها لا تقتصر فقط على ظاهرة العنف المبني على النوع الاجتماعي، بل يمكن أن تمتد وتشمل رصد لمؤشرات الجريمة في المجتمع الفلسطيني. حيث تقدم تلك الآلية مؤشرات فرعية ووطنية متعددة في مجالات مختلفة مثل انتهاكات حقوق الإنسان، وممارسات الاحتلال، والفساد، وغيرها التي تمكن راسم السياسات من اتخاذ القرارات الصحيحة لتصحيح المسار.

أية معالجة حقيقة لأسباب تنامي وتصاعد وتيرة العنف المبني على النوع الاجتماعي تقتضي في المقام الأول معالجة التحديات التي يكرسها الموروث الثقافي، المتساهل نسبيا مع العديد من أنماط العنف تجاه المرأة، كالعنف المبني على النوع الاجتماعي والعنف الأسري وظاهرة قتل النساء بداعي الشرف، وغيرها من تلك الأنماط، تتطلب بداية آليات مبتكرة وجديدة كآلية الإنذار المبكر، بما يرافقها من عمليات تثقيف وتوعية مجتمعية بأهمية هذا النظام في معالجة تلك الظواهر. حيث أنه يقوم على منهجية بنيوية شاملة تعتمد على مقاربات ومؤشرات تبرز الأسباب الحقيقة الكامنة وراء استمرار وتنامي ظاهرة العنف في المجتمع الفلسطيني، وتقدم رؤى عملية لاستجابة فاعلة للحد منه.

جل ما تتطلبه الآلية حاليا هو إرادة فلسطينية حقيقية لمواجهة العنف المبني على النوع الاجتماعي، من خلال بناء شبكة من التحالفات بين كافة المؤسسات الرسمية والأهلية ذات العلاقة من أجل حماية شعبنا من الإنزلاق في دائرة العنف، ومساعدته على تعزيز مناعته الداخلية، من خلال معالجة الفجوة القائمة بين تقديم الإنذار والاستجابة له، والتي تتطلب ضرورة توفر علاقة تعاونية مع صانع القرار واداركه لخطورة الوضع القائم وتخصيص الموارد المادية والبشرية المناسبة للاستجابة، فهل من مستجيب...!

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر صاحبها وليس بالضرورة رأي المؤسسة او الممول.