بقلم: أدهم مناصرة
لنتفق أولاً على تعريف نظري مُبسّط لهوية الدولة المدنية... إذ هو اصطلاح يعبر عن ما تمتاز به أي دولة أو كيان أو نظام حكم من خصائص وشروط تشكل ضمانة للحفاظ على جميع المواطنين وحمايتهم باختلاف انتماءاتهم السياسية، والمناطقية، والدينية والفكرية.
وبمقاربة فلسطينية لهذا المفهوم، فإنّ المناداة بتكريس الهوية المدنية للدولة العتيدة ليست ترفا ولا فنتازيا، ولا موضوعا منفصلا عن النضال الوطني والسياسي وحتى الاجتماعي ككل، بل تدخل في صلبها وصميمها، لدرجة أنها تُعدّ شرطا أساسيا لتمكين الفلسطينيين من إقامة دولة يناضلون من أجلها منذ عقود طويلة.
نعم، ليست مبالغة أن توصف ب “المُلحة"، إذا ما توقفنا بعمق عند ما آل إليه الحال الفلسطيني نتيجة أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية متراكمة، طالما أدركنا أن الإيمان بهوية الدولة المدنية قولا وفعلا هو السبيل لفكفكة كل هذه الأزمات تباعا..
ولكن، كيف ذلك؟
أي نعم، لم يتحقق حلم الدولة الفلسطينية بعد، بيدَ أنّ هذا بحد ذاته يفرض نفسه كدافع مُضاعَف لضرورة إعلاء الصوت دائما تحت عنوان مدنية الدولة لكل مؤسسة حكم فلسطينية ولو كانت مرحلية حتى اللحظة، أو عبارة عن سلطة محدودة الصلاحيات، نختلف عليها وعلى وظيفتها في كثير من الأحيان بفعل واقع جيوسياسي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين.. على أمل الخلاص من عنق الزجاجة التي حُشرنا داخلها، جميعا، منذ زمن.
ولكن، لعلّ أقصر الطرق إلى الدولة هو أن نجيبَ على سؤالين: ما الدولة التي نريد؟، وما هو مضمونها وشكلها؟
لمجرد الإجابة المُوحدة على هذين السؤالين، تتسع المدارك الفلسطينية نحو سبل تعزيز روايتنا ومظلوميتنا أكثر في هذا العالم، فنقول له ولأنفسنا: نحن نعرف ماذا نريد؟، نريد دولتنا التي رسمنا شكلها وبلورنا هويتها وصولا إلى حكم إدماجي تعددي جامع. هذا إن علمنا أن الاجماع على الهوية المدنية ونهجها سلوكا لا تنظيرا هو السبيل الوحيد الذي يفشل أي مخططات أو عوامل لتقسيم الفلسطينيين إلى دويلات مناطقية متنازِعة باسم العشيرة، أو الحزب والجهة، أو المنطقة.
سطوة العشائرية.. ونَزعة المناطقية
الحال أن ما يُلمس على أرض الواقع مخيب للآمال ويدق ناقوس الخطر بفعل ما بدا اندثارا لمفهوم الدولة المدنية وهويتها؛ لأن هذا يعني خسارتنا كل شيء.. فسطوة العشائرية تتصدر المشهد الفلسطيني لدرجة الشعور أنها الحاكم الفعلي في بعض المناطق وبديلة للمحاكم والقوانين، بالموازاة مع سطوة مراكز قوى حزبية وجهوية في مناطق أخرى.
بالمحصلة، تتكرس نزعة المناطقية لدرجة أن كل محافظة فُرض عليها واقعها وخصوصيتها، ما ولّد لدى سكان كل محافظة شعورا بالتهميش والهمّ الاستنثائي الخاص!
وساهمت الحكومة خطاباً في أكثر من مناسبة في تعزيز المناطقية، ونستذكر هنا الخطاب الذي مارسته خلال جائحة كورونا على سبيل المثال لا الحصر، حينما اشتمل ذلك الخطاب "الخطير" في خضم الحالة الوبائية على إيحاءات ضمنية وصريحة صنفت مناطق وفئات اجتماعية في الضفة الغربية ضمن معيار “أكثر وعيا من أخرى”، أو أن “بعضها أكثر تمردا على القانون”..
إذن، ثمة مبادئ لا بد من توفرها في الدولة المدنية التي نناضل من أجل نيلها على مدار عقود طويلة، ولا تكفي الإشارة إليها في القوانين والدساتير الفلسطينية ولا التأكيد عليها في أروقة المجلس المركزي لمنظمة التحرير في سياق استهلاكي وبروتوكولي فقط، بينما نبتعد مسافات طويلة عن تطبيقها سلطةً ومجتمعا.
السلم الأهلي والعدالة المجتمعية
وبما أنّ أحد شروط الدولة المدنية هو تحقيق السلم المجتمعي والتسامح والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، فإنّ تعاظم النزاعات المطلبية بين الاتحادات والنقابات مع الحكومة وما رافقها من خطاب فاقد للثقة بأي شيء، لهو مؤشر على انعدام العدالة الاجتماعية.. وهذا بحد ذاته إخلال بأهم مبادئ الدولة المدنية الذي يضمن عدم خضوع أي فرد في الدولة لانتهاك حقوقه من قبل فرد أو طرف آخر. فهناك دوما سلطة عليا هي سلطة الدولة يلجأ إليها الأفراد حينما تُنتهك حقوقهم، والإشكالية هنا، أن الناس فقدوا الأمل والثقة بأي جسم يمثلهم، لعدم قدرته على تمكينهم من حقوقهم.
فرصة أخيرة!
خلاصة القول، ما لم يدرك الفلسطينيون أهمية النضال من أجل الهوية المدنية للدولة معنىً وممارسة، فإن المسافة التي تفصلهم عن تحقيق حلم الدولة ستطول أكثر، هذا إن لم يخسروا فرصة تحقيق الحلم نفسه؛ وهو ما يعني تحقق البديل المتمثل بالخيار الأخطر ألا وهي ”دويلات عشائرية ومناطقية”.. عدا أن الأزمات الوطنية واللاعدالة الاجتماعية تترسخ على نحو لا يمكن معالجتها بسهولة.
حقا، ما زالت أمامنا فرصة، فلنبادر إلى استثمارها؛ خشية أن تكون الأخيرة، وعندها يفوت الأوان..
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر صاحبها وليس بالضرورة رأي المؤسسة او الممول.